لم تعد البيروقراطية والتعجرف الذي غزا الإدارات العمومية في الوطن، السمة الوحيدة التي تشهدها هذه المرافق، حيث دخلت "موضة" الحديث باللغة الفرنسية لتفرض منطقها وتضع قاصدي الإدارات العمومية في حرج كبير، كثيرا ما يضطر قاصدوها إلى العودة من حيث أتوا أو الاستعانة بقريب أو جار متعلّم، يرافقهم للتواصل مع موظفين لا يتقنون في حقيقة الأمر سوى بضع كلمات، يستعرضون بها عضلاتهم على الشيوخ والأميين ويبتلعون ألسنتهم بمجرد حضور من يتقن الفرنسية فعلا.
"الشروق" وللوقوف على بعض من الواقع المأساوي الذي فرض على مواطنين، ذنبهم الوحيد أنهم لم يحضوا بفرصة التعلّم، أبينا إلا أن ندخل في عباءة هؤلاء ونقصد بعض المرافق العمومية كأميين يناشدون خدماتها.
البداية كانت من مصلحة الحالة المدنية بإحدى البلديات بولاية تيزي وزو، توجهنا لإحدى الشبابيك للاستفسار عن شباك استخراج شهادة الإقامة وتعمدنا التوجه لموظفة معروفة بتعاليها على كل من يقصدها، حيث كثيرا ما يخرج كبار السن باكين من مصلحتها، نظرا لمعاملتها السيئة لهم، فردّت عليا باللغة الفرنسية:"ماذا تريدين شهادة الإقامة أو بطاقة الإقامة؟"رددت عليها بأني لم أفهم ماذا قالت وما الفرق بين الوثيقتين، طلبت منها أن تحدثني بلغتنا الأم التي أجيدها وأفهمها لأني لم أدخل المدرسة يوما.
ردت بنبرة حادة لماذا تريدين هذه الوثيقة، لأي ملف؟ قلت إنها لملف استخراج جواز سفر، فتمتمت قائلة:"لا تفهمين ما معنى بطاقة إقامة وتودين استخراج جواز سفر، أرجو لا يكون السفر مرادك هذا ما يخصّك."
ملأت الاستمارة واستلمتها بوجه محمرّ غضبا في حقيقة الأمر، لكنه ساعدني ليكون علامة خجل مما واجهته أمام الملأ، خصوصا وأن بعض المواطنين تطوّعوا لدى توجهها للمصادقة على الشهادة، ليشرحوا لي الفرق بين الوثيقتين وفي أي الملفات تستعمل كل واحدة.
وقبل أن أغادر طلبت منها ألا تحرج الأشخاص بتحدثها بلغة لا يفهمونها، في حين تتقن لغة يتحدثها الجميع، لأن مهمّتها خدمة المواطن وليس إهانته، فردت بنبرة لا تخلو عن تلك التي ألفها بها الجميع:"لست بحاجة ليعلمني أحد كيف أعمل أو أتحدث".
شاءت الصدف، أن يوجه رئيس ذات البلدية بعد أسابيع قليلة، دعوة لتغطية عملية الرقمنة التي عرفتها مصلحة الحالة المدنية ببلديته، وكنا أول الملبين للدعوة، طاف بنا المير وحاشيته في أروقة المصلحة، يشرح لنا كل كبيرة وصغيرة عن هذا الانجاز "المعجزة" وكانت "غريمتي" من الجمهور المتفرج على ضيوف مسؤولها الأول، بادرتها بالحديث بمجرد الوصول إليها وقلت لها:"لم آت اليوم لاستخراج شهادة الإقامة" فتدخل المير وقال ما الأمر؟ فقلت: "لا شيء فقط بيننا قصة شهادة"، حينها فقط شعرت أني قصصت لكل من أبكتهم منذ توليها ذات المنصب، بعدما تصببت عرقا باردا وعجزت حتى على رسم ابتسامة باهتة على وجهها.
المحطة الثانية كانت مقر الدائرة، اضطررنا لمرافقة إحدى القريبات لتودع ملف طلب سكن اجتماعي، حيث توجهت سابقا ولأنهم حدثوها بالفرنسية لم تفهم وحتى لا يوضع ملفها بسلة المهملات، بسبب جهلها ناشدت مرافقة من يتمكن من التواصل مع "المفرنسين" الغازين للإدارات العمومية.
الحديث بلغة لا يفهمها المواطن، ليس العائق الوحيد الذي يعاني منه قاصدو هذه المؤسسات، فالتعجرف والإهانة، موجودة في أغلبها، ولا يستثنى منها المتعلمون، إذ كثيرا ما يجد الفرد نفسه مهانا وعائدا بدون الحصول على مقصده، ليس لسبب سوى لأن العامل المكلف بخدمته، لم يكن في مزاج يسمح له باحترام الزبون والرد على استفساره أو تقديم الخدمة التي ذهب لأجلها، وهو الأمر المطروح حتى بالمؤسسات الخاصة.
الوضع الذي يغذي وباستمرار ظاهرة الرشوة والوساطة، حسب درجة تصعيب خدمة المواطن من قبل الموظفين، فالكثير من الأمور التي لا يتعدى كونها حقوقا مشروعة للمواطن، ويتلقى العامل أجره على أساس تقديم هذه الخدمات، يتطلب في وقتنا وساطات من فلان وعلان وقد تمتد إلى استغلال الوضع والاستثمار فيه، للحصول على رشاوى وغيرها من الامتيازات لقاء تقديم خدمة، في حقيقة الأمر تكون الدولة قد سخرت لأجلها مؤسسات كاملة.
ومن الجهة القانونية، أكد المحامي "كمال د" في حديث لـ"الشروق" أنه لا توجد نصوص صريحة تجبر الموظف على الحديث بلغة معينة، رغم سياسة التعريب المعتمدة، إلا أن الفوضى القائمة في الإدارات الجزائرية، قضت على كل أسس معاملة المواطن والأخذ بعين الاعتبار مستوى الخدمات المقدمة، إلا أنه يحق للزبون الذي يهان من قبل موظف ما، أن يرفع ضده دعوى قضائية بتهمة التجاوز بسوء استغلال السلطة المخولة له عن طريق وظيفته.